كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هَذِهِ الْآيَةُ كَالْآيَةِ 38 مِنْ سُورَةِ يُونُسَ، إِلَّا أَنَّ التَّحَدِّيَ فِي تِلْكَ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ مُطْلَقًا، وَفِي هَذِهِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ، وَقَدْ وَعَدْتُ فِي تَفْسِيرِهَا بِالْكَلَامِ عَلَى حِكْمَةِ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ عِنْدَمَا أَصِلُ إِلَى تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ هُودٍ هَذِهِ، ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أُبَيِّنَهَا هُنَاكَ مُجْمَلَةً لِئَلَّا تَخْتَرِمَنِي الْمَنِيَّةُ قَبْلَ بُلُوغِ هَذِهِ الْآيَةِ فَبَيَّنْتُهَا فِي جَوَابِ مَا يَرِدُ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ فِي إِعْجَازِ الْبَلَاغَةِ.
بَلْ سَبَقَ لِي أَنْ بَيَّنْتُ حِكْمَةَ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي هِيَ آخِرُ آيَاتِ التَّحَدِّي نُزُولًا، وَوَضَّحْتُ ذَلِكَ فِي الْفَصْلِ الْمُلْحَقِ بِهِ الَّذِي عَقَدْتُهُ لِبَيَانِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ، وَلاسيما الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْهُ وَهُوَ إِعْجَازُهُ بِأُسْلُوبِهِ وَنُظُمِهِ الْعَدِيدَةِ وَأَسَالِيبِهِ الْكَثِيرَةِ فِي سُوَرِهِ الْمِائَةِ وَالْأَرْبَعَ عَشْرَةَ.
خُلَاصَةُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْتِهِمُ اللهُ تَعَالَى حِكْمَةَ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مُفْتَرَيَاتٍ، زَعَمُوا أَنَّ اللهَ تَعَالَى تَحَدَّى فُصَحَاءَ قُرَيْشٍ الَّذِينَ هُمْ أَفْصَحُ الْعَرَبِ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ فِي جُمْلَتِهِ، فَلَمَّا عَجَزُوا تَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ، فَلَمَّا عَجَزُوا تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ، ثُمَّ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَلَكِنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ لَمْ يَصِحَّ بِهِ نَقْلٌ، بَلِ الْمَرْوِيُّ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ يُخَالِفُهُ، فَإِنَّ سُورَةَ هُودٍ نَزَلَتْ عَقِبَ سُورَةِ يُونُسَ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ نُزُولَ سُورَةٍ قَبْلَ أُخْرَى لَا يَقْتَضِي نُزُولَ جَمِيعِ آيَاتِهَا قَبْلَ جَمِيعِ آيَاتِهَا، وَهَذَا الْجَوَابُ إِنَّمَا يُقَالُ فِيمَا تَصِحُّ الرِّوَايَةُ فِي تَأَخُّرِ نُزُولِهِ وَتَقَدُّمِهِ، وَلَا يَصِحُّ بِالتَّحَكُّمِ الْمَحْضِ، فِيمَا هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ الثَّابِتِ بِالنَّقْلِ، وَأَبْعَدُهُ عَنِ التَّصَوُّرِ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ فِي سُورَتَيْنِ مُتَعَاقِبَتَيْنِ.
وَسَبَبُ غَفْلَتِهِمْ عَنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ، أَنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوهَا مِنَ التَّأَمُّلِ فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهَا مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ الْمُكَرَّرِ فِي سُوَرِهِ؛ لِأَنَّهُمُ اعْتَادُوا أَنْ يَطْلُبُوا مَعَانِيَهُ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمَأْثُورَةِ عَلَى قِلَّتِهَا وَقِلَّةِ مَا يَصِحُّ مِنْهَا، وَمِنْ مَدْلُولِ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا وَحْدَهَا فِي مُفْرَدَاتِ اللُّغَةِ وَجُمَلِهَا، بِمُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ الْفَنِّيَّةِ أَوِ الْفِقْهِيَّةِ وَأُصُولِهَا، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ أَقْوَى شُبْهَةٍ لِلْمُعْتَرِضِينَ عَلَى دَعْوَى الْإِعْجَازِ بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، أَنَّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ الَّذِي يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ قَدْ يَسْبِقُ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ إِلَى أَعْلَى عِبَارَةٍ لَهُ وَأَبْلَغِهَا، بِحَيْثُ يَكُونُ كُلُّ مَا عَدَاهَا دُونَهَا، وَأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّابِقَ لَهَا قَدْ تَلَقَّاهَا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ- تَعَالَى-. فَإِنَّ مِثْلَهُ يُوجَدُ فِي كُلِّ اللُّغَاتِ، وَذَكَرْتُ مَثَلًا لَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا، وَأَجَبْتُ عَنْهَا بِأَنَّ الْقُرْآنَ يُعَبِّرُ عَنِ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ بِالْعِبَارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي تُعَدُّ كُلٌّ مِنْهَا فِي أَعْلَى الدَّرَجَاتِ وَيَعْجِزُ عَنْهَا جَمِيعُ الْبُلَغَاءِ ثُمَّ بَيَّنْتُ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ مِنْ تَفْسِيرِ يُونُسَ أَنَّ الْقَامُوسَ الْأَعْظَمَ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ اللَّفْظِيِّ هُوَ تَكْرَارُ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ بِالْعَشَرَاتِ وَالْمِئَاتِ مِنَ الْعِبَارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ وَبَلَاغَةِ الْعِبَارَةِ وَقُوَّةِ تَأْثِيرِهَا فِي قُلُوبِ الْقَارِئِينَ وَالسَّامِعِينَ لَهَا، وَعَدَمِ وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ بِالتَّنَاقُضِ أَوِ التَّعَارُضِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا كَمَا قَالَ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (4: 82) وَإِنَّمَا يَظْهَرُ هَذَا الْإِعْجَازُ بِنَوْعَيْهِ فِي السُّوَرِ الْعَدِيدَةِ وَبَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ يُونُسَ وَجْهَ وَصْفِهَا بِمُفْتَرَيَاتٍ، وَأَعُودُ هُنَا إِلَى بَسْطِ الْمَسْأَلَةِ وَفَاءً بِالْوَعْدِ فَأَقُولُ: الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي افْتَرَاهُ يَعُودُ إِلَى الْقُرْآنِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ سِيَاقِ تَبْلِيغِهِ، وَقَدْ حَكَى عَنْهُمْ هَذِهِ التُّهْمَةَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي سُورَةِ يُونُسَ، وَفِيهَا وَجْهَانِ:
(1) أَنَّهُ افْتَرَاهُ فِي جُمْلَتِهِ بِإِسْنَادِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَادِّعَائِهِ أَنَّهُ كَلَامُهُ أَوْحَاهُ إِلَيْهِ، وَقَدَّمْتُ الْجَوَابَ عَنْهُ آنِفًا.
(2) أَنَّهُ افْتَرَى أَخْبَارَهُ الَّتِي يَدَّعِي أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ؛ إِذْ لَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى نُبُوَّتِهِ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ وَفِي تَفْسِيرِ آيَةِ يُونُسَ، وَقَدْ حَكَى الْأَمْرَيْنِ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ بِقَوْلِهِ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (25: 4- 6) فَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ قِصَصُهُمْ وَأَكَاذِيبُهُمُ الَّتِي سَطَرُوهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَلِّي نَفْسَهَا عَنْ جَهْلِهَا بِالْأَدْيَانِ وَالتَّوَارِيخِ بِزَعْمِهِمْ أَنَّهَا خُرَافَاتٌ وَأَكَاذِيبُ، فَالتَّحَدِّي بِالسُّوَرِ الْعَشْرِ هُوَ الَّذِي يُفَنِّدُ هَاتَيْنِ التُّهْمَتَيْنِ الْمُوَجَّهَتَيْنِ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنْهَضِ حُجَّةٍ عَمَلِيَّةٍ، لَا جَدَلِيَّةٍ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ هَذَا التَّحَدِّيَ بِالْعَشْرِ يَثْبُتُ بِهِ مِنْ بُطْلَانِ دَعْوَاهُمْ مَا لَا يَثْبُتُ بِالْعَجْزِ عَنْ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلاسيما إِذَا كَانَتْ قَصِيرَةً، وَلِهَذَا حَسُنَ مَجِيئُهُ بَعْدَ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مُطْلَقًا، خِلَافًا لِرَأْيِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ غَفَلُوا عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَظَنُّوا أَنَّ التَّحَدِّيَ بِالْعَشْرِ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْوَاحِدَةِ لَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ وَاحِدَةٍ كَانَ أَعْجَزَ عَنِ اثْنَتَيْنِ فَضْلًا عَنْ عَشْرٍ، فَتَفْصُوا مِنْ هَذَا بِدَعْوَى التَّرْتِيبِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ مَوْضُوعُ التَّحَدِّي مُتَّحِدًا مُطْلَقًا وَهُوَ هُنَا مُخْتَلِفٌ وَمُقَيَّدٌ.
ذَلِكَ بِأَنَّ افْتِرَاءَ الْأَخْبَارِ الْمُدَّعَى فِي الْقُرْآنِ نَوْعَانِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنْبَاءُ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ. وَهِيَ قِسْمَانِ:
(1) قِصَصُ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، وَقَدْ تَحَدَّى بِهَا مِنْ نَاحِيَةِ كَوْنِهَا غَيْبِيًّا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ صلى الله عليه وسلم عِلْمٌ بِهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَحَلِّهِ، وَمِنْهُ مَا يَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا بَعْدَهَا وَفِي غَيْرِهِمَا.
(2) أَخْبَارُ التَّكْوِينِ؛ كَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا، كَخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَالْجَانِّ، لَا أَذْكُرُ أَنَّهُ صَرَّحَ بِالتَّحَدِّي بِهَا تَحَدِّيًا خَاصًّا، وَلَا أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِهَا وَأَنْكَرُوهَا، فَهِيَ لَمْ تَكُنْ مَوْضِعَ نِزَاعٍ، وَكَذَلِكَ أَخْبَارُ السُّنَنِ الْعَامَّةِ فِي الْخَلْقِ الْوَارِدَةِ فِي سِيَاقِ تَعْدَادِ النِّعَمِ كَمَا تَرَاهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، أَوْ سِيَاقِ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى وَحُجَجِهِ عَلَى عِبَادِهِ كَمَا تَرَاهُ فِي سُورَةِ الرُّومِ، وَإِنَّمَا جَعَلْتُ هَذِهِ كُلَّهَا قِسْمًا وَاحِدًا فِي هَذَا الْبَحْثِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي تُهْمَةِ الِافْتِرَاءِ.
(وَثَانِيهِمَا) أَنْبَاءُ الْغَيْبِ الْآتِيَةُ وَهِيَ قِسْمَانِ أَيْضًا:
(1) وَعْدُ اللهِ بِنَصْرِ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَجَعْلِ الْعَاقِبَةِ لَهُمْ وَاسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَبِخِذْلَانِ أَعْدَائِهِ وَأَعْدَائِهِمُ الْكَافِرِينَ وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ وَتَعْذِيبِهِمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَهُوَ مَا كَانُوا يَتَمَارَوْنَ بِهِ وَيُكَذِّبُونَهُ.
(2) الْقِيَامَةُ وَبَعْثُ الْخَلْقِ وَحِسَابُهُمْ وَجَزَاؤُهُمْ بِعَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَهُوَ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَهُ وَيَسْتَبْعِدُونَهُ. فَأَخْبَارُ الْغَيْبِ الَّتِي كَانُوا يُكَذِّبُونَهَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا مُفْتَرَاةٌ هِيَ ثَلَاثَةٌ: (1) أَخْبَارُ الْآخِرَةِ. (2) أَخْبَارُ وَعْدِ اللهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَوَعِيدِهِ لِأَعْدَائِهِ فِي الدُّنْيَا وَكِلَاهُمَا مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الَّتِي لَا يَظْهَرُ صِدْقُهَا إِلَّا بِتَأْوِيلِهَا، أَيْ وُقُوعِ مَدْلُولِهَا. (3) قِصَصُ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- وَهِيَ أُمُورٌ قَدْ وَقَعَتْ بِالْفِعْلِ، وَهَاكَ كَلِمَةٌ تَفْصِيلِيَّةٌ فِي عَدَدِ الْعَشْرِ فِي كُلٍّ مِنْهَا، يُعْلَمُ بِهَا تَرْجِيحُ الثَّالِثِ الَّذِي سَمَّوْهُ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا. فَأَمَّا آيَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فَكَثِيرَةٌ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ السُّوَرِ مِنْ أَطْوَلِهَا إِلَى أَقْصَرِهَا الَّتِي هِيَ سُوَرُ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ.
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى وَجْهِ الْإِعْجَازِ بِتَكَرُّرِهَا الْمَبْثُوثِ فِي مِئَاتِ الْمَوَاضِعِ مِنَ السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ الْمُخْتَلِفَةِ النَّظْمِ بِالْأَسَالِيبِ الْعَجِيبَةِ وَالْبَلَاغَةِ الدَّقِيقَةِ فِي الرُّكْنِ الثَّالِثِ مِنْ أَرْكَانِ الْمَقْصِدِ الْأَوَّلِ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، وَأَقُولُ هُنَا: إِنَّ قِصَارَ الْمُفَصَّلِ الْمَكِّيَّةَ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ هُودٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مُرَادَةً مِنْ هَذِهِ الْعَشْرِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا هِيَ: التِّينُ، وَالْعَادِيَاتُ، وَالْقَارِعَةُ وَالتَّكَاثُرُ، وَالْهُمَزَةُ، وَاللهَبُ، فَلابد مِنْ تَكْمِيلِهَا مِمَّا قَبْلَ سُورَةِ الضُّحَى، وَلَا يَظْهَرُ لِلتَّحَدِّي بِعَشْرٍ مُفْتَرَيَاتٍ مِنْهَا مَعْنًى لَا يُوجَدُ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلاسيما إِذَا كَانَتْ طَوِيلَةً، فَهِيَ غَيْرُ مُرَادَةٍ بِالْعَشْرِ.
وَأَمَّا آيَاتُ وَعْدِ اللهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ، وَوَعِيدِهِ الدُّنْيَوِيِّ لِلْكَافِرِينَ بِالْخِذْلَانِ وَالْعَذَابِ، فَلَا يُوجَدُ فِي قِصَارِ الْمُفَصَّلِ شَيْءٌ صَرِيحٌ مِنْهَا، وَلَكِنْ إِشَارَاتٌ فِي بَعْضِهَا (مِنْهَا) سُورَةُ (الْكَوْثَرِ) وَهِيَ أَقْصَرُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ، فَفِيهَا الْوَعْدُ الصَّادِق لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِعْطَائِهِ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ الدِّينِيَّ وَالدُّنْيَوِيَّ، وَمِنْهُ الْغِنَى بَعْدَ الْفَقْرِ الَّذِي كَانَ أَغْنِيَاءُ قَوْمِهِ يُعَيِّرُونَهُ بِهِ، وَالْوَعِيدُ الصَّادِقُ لِعَدُوِّهِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ الَّذِي سَمَّاهُ أَبْتَرَ عِنْدَ مَوْتِ ابْنِهِ الْقَاسِمِ، بِأَنَّهُ هُوَ الْأَبْتَرُ الَّذِي سَيَنْقَطِعُ ذِكْرُهُ بِنَسْلِهِ وَغَيْرِ نَسْلِهِ، وَيَتَضَمَّنُ هَذَا الْحَصْرُ الْإِضَافِيُّ بَقَاءَ ذِكْرِهِ صلى الله عليه وسلم بِذُرِّيَّتِهِ وَبِآثَارِ هِدَايَتِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ خُلَاصَةَ تَفْسِيرِهَا فِي بَحْثِ إِعْجَازِ السُّوَرِ الْقِصَارِ مِنْ تَفْسِيرِ التَّحَدِّي بِآيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (وَمِنْهَا) سُورَةُ (اللهَبِ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى مِنْهَا خَبَرٌ بِهَلَاكِ أَبِي لَهَبٍ وَامْرَأَتِهِ، وَإِذَا قِيلَ إِنَّهَا دُعَاءٌ فَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ وَقَدْ صَدَقَ، فَقَدْ مَاتَ أَبُو لَهَبٍ شَرَّ مِيتَةٍ خَارِجَ مَكَّةَ وَبَقِيَ مُلْقًى حَتَّى تَفَسَّخَ وَأَنْتَنَ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ بِأَيَّامٍ، وَهِيَ أَوَّلُ انْتِقَامِ اللهِ مِنْ عُتَاةِ قُرَيْشٍ وَتَصْدِيقُ وَعْدِهِ لِرَسُولِهِ فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} (44: 16) وَمِثْلُهَا الْوَعِيدُ فِي سُورَةِ الْعَلَقِ، وَقَدْ نَزَلَ فِي أَبِي جَهْلٍ وَصَدَقَ بِقَتْلِهِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ أَشَرَّ قِتْلَةٍ، وَفِي مَعْنَاهُمَا الْوَعِيدُ فِي سُورَةِ (الْمُدَّثِّرِ) مِنْ وَسَطِ الْمُفَصَّلِ وَقَدْ نَزَلَ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَهُوَ يَشْمَلُ وَعِيدَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَقَدْ صَدَقَ وَوَقَعَ-
فَهَذِهِ أَرْبَعُ سُوَرٍ مِنْ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ وَوَسَطِهِ، وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ فِيهَا خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَشَدِّ الْعُتَاةِ الَّذِينَ بَارَزُوهُ الْعَدَاوَةَ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ بَعْدَ ذَلِكَ- مِمَّنْ كَانُوا يُنْكِرُونَهُ- مِنَ الْوَعِيدِ لَهُ وَالْوَعِيدِ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ جُزْئِيَّاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ مُجْمَلَةٌ، لَا وَقَائِعُ فَاصِلَةٌ، فَهِيَ غَيْرُ مُرَادَةٍ بِالْعَشْرِ أَيْضًا.
وَمِنَ الْوَعِيدِ الْعَامِّ لِلْكُفَّارِ كُلِّهِمْ فِي وَسَطِ الْمُفَصَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجِنِّ مِنْ تَبْلِيغِهِ صلى الله عليه وسلم الدَّعْوَةَ: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا} (72: 24 و25) إِلَخْ. وَهَذَا بَعْدَ الْوَعْدِ فِيهَا بِقَوْلِهِ: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} (72: 16).
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قِصَارِ الْمُفَصَّلِ وَلَا فِي أَوْسَطِهَا عَشْرُ سُوَرٍ نَاطِقَةٍ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الدُّنْيَوِيَّيْنِ فَتَكُونَ هِيَ الْمُرَادَّةَ بِالتَّحَدِّي.
وَأَمَّا طِوَالُ الْمُفَصَّلِ فَفِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الْمُبْهَمِ فِي سُوَرِ الذَّارِيَاتِ وَالطُّورِ وَالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ؛ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ أَقْوَامِ الرُّسُلِ الَّذِينَ انْتَقَمَ اللهُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ فِي سُوَرِ الْمُلْكِ وَالْقَلَمِ وَالْحَاقَّةِ وَالْمَعَارِجِ، وَمَجْمُوعُ مَا فِيهِ يَزِيدُ عَلَى عَشْرٍ، إِنْ أُرِيدَ التَّحَدِّي بِهَا أَوْ دُخُولُهَا فِيمَا يُتَحَدَّى بِهَا فِي الْآيَةِ، وَإِنَّمَا الصَّرِيحُ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الَّذِي هُوَ الْأَحْرَى بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَإِنَّمَا هُوَ فِي السُّوَرِ الطَّوِيلَةِ مِمَّا فَوْقَ الْمُفَصَّلِ، وَلَكِنَّ هَذَا النَّوْعَ كَالَّذِي قَبْلَهُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ تَخْصِيصُ التَّحَدِّي بِعَشْرٍ مُفْتَرَيَاتٍ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَرِكٌ مَعَ الَّذِي بَعْدَهُ فِي سُوَرِهِ، وَلِأَنَّ مَوْضُوعَهُ مِمَّا لَا يُعْرَفُ صِدْقُهُ لِذَاتِهِ إِلَّا بِوُقُوعِهِ.
وَجْهُ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ قَصَصِ الْقُرْآنِ:
وَأَمَّا قِصَصُ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فَهِيَ الَّتِي تَظْهَرُ فِيهَا حِكْمَةُ التَّحَدِّي بِالسُّوَرِ الْعَشْرِ عَلَى أَتَمِّهَا وَأَكْمَلِهَا مِنَ الْوُجُوهِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَيَكُونُ الْعَجْزُ عَنْ مُعَارَضَتِهَا أَقْوَى حُجَّةً وَبُرْهَانًا عَلَى كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى لَا مُفْتَرَاةً مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَحْدَهُ، وَلَا مِمَّا أَعَانَهُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ كَمَا تَصَوَّرُوا وَزَوَّرُوا، لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ مِثْلِهَا عَامٌّ كَمَا سَنُفَصِّلُهُ، عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بَدَأَ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ بِالْقُرْآنِ وَحْدَهُ، وَكَانَ يَتَّبِعُهُ الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ مِنْ أَصْدَقِ النَّاسِ وَأَسْلَمِهِمْ فِطْرَةً مُسْتَهْدَفِينَ بِاتِّبَاعِهِ لِلْإِيذَاءِ وَالِاضْطِهَادِ، وَلَوْلَا الْإِيمَانُ بِوَعْدِ اللهِ لَهُمْ وَوَعِيدِهِ لِأَعْدَائِهِمْ لَمَا كَانَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَمَلٌ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْهَلَاكِ، فَأَيُّ بَاعِثٍ يَبْعَثُهُمْ عَلَى التَّعَاوُنِ مَعَهُ عَلَى تَزْوِيرِ كِتَابٍ عَلَى اللهِ- عَزَّ وَجَلَّ- يُعَادُونَ بِهِ كُبَرَاءَ قَوْمِهِمْ وَعَصَبِيَّةَ أُمَّتِهِمْ بِمَا يُفَرِّقُونَ بِهِ كَلِمَتَهَا وَيُضْعِفُونَهَا وَيُذِلُّونَهَا؟! وَكَيْفَ يُعَرِّضُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْهَلَاكِ، وَيُعَرِّضُ الْمُتَمَوِّلُ مِنْهُمْ مَالَهُ لِلزَّوَالِ لِتَأْيِيدِ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ، عَلَى فَرْضِ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ؟ كُلُّ ذَلِكَ بَدِيهِيُّ الْبُطْلَانِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْقِصَصِ وَسَائِرِ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الْمُكَرَّرِ مِنْهَا كَوَعِيدِ الدُّنْيَا وَوَعْدِهَا وَجَزَاءِ الْآخِرَةِ، وَغَيْرِ الْمُكَرَّرِ كَالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِإِيضَاحِ الْحَقَائِقِ أَوْ لِلْعِبْرَةِ فِي سُوَرِ النَّحْلِ وَالْكَهْفِ وَالْقَلَمِ وَغَيْرِهِنَّ أَنَّ مَوْضُوعَهَا وَقَائِعُ بَشَرِيَّةٌ تَارِيخِيَّةٌ لَهَا رِوَايَاتٌ مُتَوَاتِرَةٌ فِي جُمْلَتِهَا، بَعْضُهَا مُدَوَّنٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَبَعْضُهَا مَحْفُوظٌ عِنْدَ الْعَرَبِ كَأَخْبَارِ عَادٍ وَثَمُودَ وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، فَدَعْوَى افْتِرَائِهَا مِنْ أَصْلِهَا مُكَابَرَةٌ ظَاهِرَةُ الْبُطْلَانِ، وَالْكَلَامُ فِيهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ عُرْضَةٌ لِضُرُوبٍ مِنَ الْخَطَأِ اللَّفْظِيِّ، وَتِكْرَارُهُ مَزَلَّةٌ فِي مَدَاحِضِ التَّعَارُضِ وَالِاخْتِلَافِ الْمَعْنَوِيِّ، وَالتَّفَاوُتِ وَالْخَطَلِ الْبَيَانِيِّ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَعَارِفِهِمْ وَمَا يَعْهَدُونَهُ بَيْنَهُمْ، لَا كَأُمُورِ الْغَيْبِ فِي غَيْرِ عَالَمِهِمْ، فَتَحَدِّيهِمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ جِنْسِهَا كَالتَّحَدِّي بِمُعَارَضَةِ مَقَامَاتِ الْحَرِيرِيِّ لِمَقَامَاتِ بَدِيعِ الزَّمَانِ وَأَمْثَالِهِمَا، يُمْكِنُ لِأَهْلِ اللِّسَانِ أَنْ يَحْكُمُوا فِيهِ بِالتَّفَاضُلِ بَيْنَهُمَا فِي بَيَانِهِمَا وَحِكْمَتِهِمَا وَمَعَانِيهِمَا.
وَقَدْ جَاءَتْ أَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ مُكَرَّرَةً فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ عَلَى دَرَجَاتٍ فِي قِلَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا، تَبْتَدِئُ بِالْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ لِبَعْضِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ فِي بَعْضِ السُّوَرِ، وَتَرْتَقِي فِي بَعْضِهَا إِلَى مُنْتَهَى جَمْعِ الْقِلَّةِ أَوْ تَزِيدُ قَلِيلًا، كَمَا تَرَاهُ فِي (آلِ حمم) مِنْ فُصِّلَتْ إِلَى الْأَحْقَافِ، وَفِي أَثْنَاءِ سُوَرِ الْفُرْقَانِ ووَالذَّارِيَاتِ وَالنَّجْمِ، وَفِي أَوَّلِ الْحَاقَّةِ وَالْفَجْرِ وَآخِرِ الْبُرُوجِ، فَهَذِهِ سُوَرٌ تَزِيدُ عَلَى عَشْرٍ فِيهَا جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَلَكِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ فِيهَا عِبَرٌ لَا تَبْلُغُ أَنْ تَكُونَ قَصَصًا.
وَأَمَّا الْقِصَصُ فَقَدْ تَبْلُغُ فِي بَعْضِ سُورِهَا عَشَرَاتِ الْآيَاتِ كَيُونُسَ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحِجْرِ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْعَنْكَبُوتِ، وَتُعَدُّ فِي بَعْضِهَا بِالصَّفَحَاتِ لَا بِالْآيَاتِ، وَمِنْهَا مَا أَكْثَرَهُ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ كَالْأَعْرَافِ وَمَرْيَمَ وَالنَّمْلِ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ فِيهِ مِنْ غَيْرِهَا إِلَّا خَاتِمَةٌ مُخْتَصَرَةٌ كَيُوسُفَ وَطه وَالْأَنْبِيَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَالْقَصَصِ، أَوْ فَاتِحَةٌ هِيَ بَرَاعَةُ مَطْلَعٍ وَخَاتِمَةٌ هِيَ بَرَاعَةُ مَقْطَعٍ، كَهُودٍ وَالصَّافَّاتِ و(ص) وَفِي قِصَّةِ نُوحٍ عليه السلام سُورَةٌ فِي الْمُفَصَّلِ خَاصَّةٌ بِهِ وَبِقَوْمِهِ سُمِّيَتْ بِاسْمِهِ عَلَى تَكْرَارِهَا فِي السُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَكَذَلِكَ سُورَةُ يُوسُفَ عليه السلام خَاصَّةٌ بِقِصَّتِهِ. كَمَا أَنَّ سُورَتَيْ طه وَالْقَصَصِ فِي قِصَّةِ مُوسَى عليه السلام وَحْدَهَا، عَلَى كَثْرَةِ تَكْرَارِهَا فِي غَيْرِهِمَا.
بَيْدَ أَنَّ التَّحَدِّيَ بِالسُّوَرِ الَّتِي فِيهَا الْقِصَصُ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ التَّحَدِّي بِهَا كُلِّهَا، لَا بِالْقِصَصِ الَّتِي فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ عَشْرُ سُوَرٍ وَلَا خَمْسٌ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ سِوَاهَا، وَأَنَّ أَكْثَرَ السُّوَرِ الَّتِي فِيهَا الْقِصَصُ الْحَقِيقِيَّةُ وَسَطٌ بَيْنَ الطُّولِ وَالْمُفَصَّلِ، فَالْأُولَى مِنْهَا فِي الْمُصْحَفِ وَهِيَ الْأَعْرَافُ مِنَ السَّبْعِ الطِّوَالِ وَآيَاتُهَا 206، وَآيَاتُ الْقِصَصِ فِيهَا 112 آيَةً، وَقَبْلَهَا قِصَّةُ النَّشْأَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَافْتِتَاحُهَا وَخِتَامُهَا فِي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَبَعْدَهَا فِيهِ سُورَةُ يُونُسَ، وَهِيَ 109 آيَاتٍ وَقَصَصُهَا 23 آيَةً، وَتَتْلُوهَا سُورَةُ هُودٍ، وَآيَاتُهَا 123 أَكْثَرُهَا فِي الْقَصَصِ، وَهِيَ أَشْبَهُ السُّوَرِ بِهَا فِي فَاتِحَتِهَا وَخَاتِمَتِهَا وَتَحَدِّيهَا فِي إِبْطَالِ الِافْتِرَاءِ، وَالْمَأْثُورُ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَهَا مُتَمِّمَةً لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَجُمْلَةُ مَا نَزَلَ قَبْلَ سُورَةِ هُودٍ مِنْ سُوَرِ الْقَصَصَ: الْأَعْرَافُ وَيُونُسُ وَمَرْيَمُ وَهِيَ 98 آيَةً، وَطه وَهِيَ 135 وَالطَّوَاسِينُ: الشُّعَرَاءُ وَهِيَ 227 وَالنَّمْلُ وَهِيَ 93 وَالْقَصَصُ وَهِيَ 88 وَآيَاتُهُمَا أَطْوَلُ مِنْ آيَاتِ الشُّعَرَاءِ وَنَزَلْنَ مُتَعَاقِبَاتٍ. وَيَلِيهِنَّ سُورَةُ الْقَمَرِ وَهِيَ 55 آيَةً وَسُورَةُ (ص) وَهِيَ 88 آيَةً وَقَدْ نَزَلَتَا مُتَعَاقِبَتَيْنِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ كُلُّهُ، فَهَذِهِ تِسْعُ سُوَرٍ، وَسُورَةُ هُودٍ هِيَ الْعَاشِرَةُ لَهُنَّ.
مَزَايَا قِصَصِ الْقُرْآنِ فِي إِعْجَازِ عِبَارَاتِهَا:
وَجَمِيعُ هَذِهِ السُّوَرِ تَخْتَلِفُ أَنَاظِيمُ سُوَرِهَا فِي أَوْزَانِهَا وَفَوَاصِلِهَا، وَفِي أَسَالِيبِ الْكَلَامِ فِيهَا، مَعَ اتِّفَاقِهَا وَتَشَابُهِهَا فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ الْبَيَانِيَّةِ، فِي الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ، وَالْقَصْرِ وَالْحَصْرِ، وَمَوَاضِعِ حُرُوفِ الْعَطْفِ، وَصِيَغِ الِاسْتِفْهَامِ وَالنَّفْيِ وَالشَّرْطِ، وَالتَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَدَرَجَاتِ التَّأْكِيدِ، وَالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، وَالْعُمُومِ وَالتَّخْصِيصِ، وَالْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ، وَالْإِيجَازِ وَالتَّطْوِيلِ، وَالْحَذْفِ وَالتَّكْرِيرِ، وَفُنُونِ الْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَلْوَانِ التَّعْبِيرِ، كَالِالْتِفَاتِ وَالتَّضْمِينِ، وَصِيَغِ الْأَفْعَالِ وَتَعْدِيَتِهَا، وَالْقِرَاءَاتِ الَّتِي تَخْتَلِفُ مَعَانِيهَا، فَإِنَّ لِعِبَارَاتِ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنَ الدِّقَّةِ الْغَرِيبَةِ، وَالْمَعَانِي الْعَجِيبَةِ، مَا لَا يَقْرَبُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ بُلَغَاءِ الْبَشَرِ، وَمِنْ شَأْنِ اخْتِلَافِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ فِيهِ أَنْ تَتَعَارَضَ وَتَتَنَاقَضَ بِتَعَدُّدِ التَّكْرَارِ وَهِيَ مَحْفُوظَةٌ مِنْهُ، وَقَدْ عَرَضْتُ لِنُكَتِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهَا فِي الْمُقَابَلَةِ الَّتِي أَوْرَدْتُهَا فِي قِصَصِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ مَعَ غَيْرِهَا.
ثُمَّ إِنَّكَ تَجِدُ لِكُلِّ لَوْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْوَانِ مِنَ التَّعْبِيرِ نَغَمًا خَاصًّا بِهِ فِي التَّرْتِيلِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا نَوْعًا جَدِيدًا مِنَ التَّأْثِيرِ، فَاسْتَمِعْ لِمُرَتِّلِ قِصَّةِ مُوسَى فِي سُورَةِ طه سَاعَةً (زَمَانِيَّةً لَا فَلَكِيَّةً) وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ سَاعَةً ثَانِيَةً، وَفِي سُورَةِ الْقَصَصِ بَعْدَهَا وَهِيَ الثَّالِثَةُ الْأُخْرَى، وَتَأَمَّلْ مَا تَجِدُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُنَّ فِي سَمْعِكَ، مُتَدَبِّرًا مَا تَشْعُرُ بِهِ مِنَ الْخُشُوعِ وَالْعِبْرَةِ فِي قَلْبِكَ، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ جَرِّبْ هَذِهِ الْمُقَارَنَةَ فِي الْقِصَصِ الْمُتَعَدِّدَةِ مِنَ السُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ، كَهُودٍ وَالنَّمْلِ وَمَرْيَمَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّافَّاتِ و(ص) وَالْقَمَرِ، تَجِدُ الْعَجَبَ الْعُجَابَ، وَلَا تَنْسَ أَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ رِجَالِ الْبَيَانِ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ.
إِذَا فَطِنْتَ لِمَا ذُكِرَ كُلِّهِ، بَدَا لَكَ أَنَّ عَجْزَ الْبَشَرِ عَنْ مُعَارَضَةِ هَذِهِ الْقِصَصِ فِي جُمْلَةِ سُوَرِهَا، بِفَصَاحَتِهَا وَبَلَاغَتِهَا فِي كُلِّ أُسْلُوبٍ مِنْ أَسَالِيبِهَا، وَكُلِّ نَظْمٍ مِنْ أَنَاظِيمِهَا، لَا يَتَحَقَّقُ فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ مِنْهَا، وَهَأَنَذَا قَدْ ذَكَرْتُ لَكَ عَشْرًا مِنْهَا مُخْتَلِفَاتٍ مُتَّفِقَاتٍ مُتَشَابِهَاتٍ غَيْرَ مُشْتَبِهَاتٍ، وَلَكِنْ حِكْمَةُ الْعَشْرِ إِنَّمَا تَظْهَرُ عَلَى أَكْمَلِهَا فِي الْإِعْجَازِ الْمَعْنَوِيِّ، فَأَلْقِ السَّمْعَ إِلَى مَا أُلْقِيهِ إِلَيْكَ مِنْهَا.